-->

مبدأ السببية اللامحدودة

مبدأ السببية اللامحدودة
    يفترض الناس دائما ان العلم يتمثل في كل إكتشاف و كل إختراع فقط, العلوم النظرية و العلوم التطبيقية, البيولوجيا و الطب .. لكن ينقصهم معرفة أن هذا الكيان الضخم, البناء العظيم المسمى “العلم” قد تطور و أصبح أكثر تعقيدا و بد واضحا (ربما منذ زمن طويل) أن العلم له مضامين يحملها بين طياته, نمط فلسفي له ملامح كامن في المعارف و النظريات التي يكتشفها. بل يمكن القول أن المكتسبات العلمية بدأت تكتسب سلوكا في توسعها, نمط و رتابة تكشف عن نمط و رتابة معينة تظهر في سلوك هذا العالم الذي نعيش فيه .. و هو ما لن يلاحظه إلا من يرى العالم بعين العلم فقط. و من الركائز الأساسية للعلم كحالة دائمة من البحث عن الحقيقة هو مبدأ : السببية اللامحدودة Infinite Causality للعالم.

    لكل شيء سبب

    السببية اللامحدودة هي العقيدة العلمية رقم واحد, و هي تتلخص في قاعدة بسيطة جدا في صياغتها رهيبة جدا في معناها و هذة القاعدة هي أن : لكل شيء سبب. قاعدة بسيطة جدا و منطقية جدا بل و بديهية جدا, لكن بتحليل معاني و مضامين هذة القاعدة يتكشف عمقها و أسباب صعوبتها. فالسببية اللامحدودة (لكل شيء سبب) تعني أن كل حدث هو نتيجة لأحداث سابقة، و إن هذا الحدث السابق سيكون هو نفسه سبباً أو علة لأحداث تالية عليه .. بحيث يؤدي السبب (أ) إلى النتيجة (ب) و السبب (ب) إلي النتيجة (ج) و السبب (ج) إلي النتيجة (د) و هكذا بلا بداية و إلي ما لا نهاية, فلا يوجد أي شيء قد نشأ بلا سبب أبدا .. أبدا. شيء مذهل طبعا !! لأن هذا يعني أن هذا العالم الذي نوجد و نعيش فيه هو عالم :
    1. لامحدود الزمان, أزلي أبدي بلا بداية ∞- و لا نهاية ∞+ .
    2. لامحدود المكان, عمق بلا بداية ∞- و اتساع بلا نهاية ∞+ .
    3. لامحدود التعقيد, فالعناصر بلاحدود و بالتالي لديها علاقات بلاحدود ببعضها البعض.
    المنهج العلمي مؤسس بشكل رئيسي على السببية اللاحدودة هذة : هو يبدأ من الآن فيعتبر الآن نتيجة لسبب و بالتالي يحاول أن يرجع إلي الوراء درجة ليكشف المستوى الأول من الأسباب بالنسبة لهذة اللحظة. و حين يكشفها ينتقل إلي المستوى الثاني من الأسباب (سبب السبب) ثم المستوى الثالث (سبب سبب السبب) و هكذا .. في سعي لانهائي و مشوار لا آخر له. و من الطبيعي لذلك ان تجد العلم متوقف في تفسيراته عند احد المستويات باحثا عن السبب لحدوث آخر الأسباب التي توصل إليها. فإدراك العلماء لطبيعة و معدل التغير الذي حدث في الماضي يتيح لهم أيضا إمكانية التنبوء بالتغيرات التي ستحدث في المستقبل : و هو ما يفسر قدرة العلماء على التنبوء الدقيق بوقت الكسوف أو الخسوف, أو إختراع الآليات و التقنيات و الأدوات .. فمن يعرف الماضي يمكنه ان يتنبأ بالمستقبل.
    العلم يسعى دائما لمعرفة ما حدث بالأمس ثم أول أمس ثم أول أول أمس, في سياق أن هذا العالم لامحدود الزمان. و في المستوى الأول من السببية نجد (نظرية التطور Theory of Evolution), و حين نسأل عن سبب حدوث التطور يجيب العلم بالمستوى الثاني من السببية (نظرية التخلق اللاحيوي Theory of Abiogenesis), و حين نسأل عن سبب حدوث التخلق اللاحيوي يرجع العلم إلي المستوى الثالث (نظرية الإنفجار الكبير Big Bang Theory), و حين نسأل عن سبب حدوث الإنفجار الكبير نجد العلماء عاكفين لدراسة و بحث هذا المستوى من السببية محققين نجاحا لم يكتمل بعد فيما يسمى (نظرية الأوتار الفائقة Super String Theory).
    و اللامحدودية المكانية تتبدى حين نعرف أن كوكب الأرض هو جزء من نظام متعدد الكواكب هو المجموعة الشمسية, و المجموعة الشمسية هي جزء من نظام متعدد المجموعات هو المجرة, و المجرة هي جزء من نظام متعدد المجرات هو الكون .. و تطرح أحدث النظريات العلمية حقيقة لها إثباتات رياضية لكن لا دليل مادي عليها حتى اللحظة, و هي أن هذا الكون هو جزء من عالم متعدد الأكوان. و هذا الطرح برغم من الغرابة التي قد يوحي بها إلا أنه يبدو منطقيا و متناسقا مع السياق المعرفي للعلم حتى الآن .. بل لن يكون هذا هو الحد النهائي للوجود برغم أنه إطار شديد الإتساع لعالمنا.
    و بالإضافة إلي هذا التدرج المكاني التوسعي لأنظمة داخل أنظمة داخل أنظمة فهناك أيضا تدرج مكاني تعمقي (متصاغر). فالأرض هي نظام متعدد العناصر و كل عنصر هو نظام متعدد الذرات و كل ذرة هي نظام متعدد الجسيمات دون الذرية (البروتونات والالكترونات والنيترونات) و كل جسيم منهم هو نظام متعدد الجسيمات الأولية (اللبتونات والكواركات والبوزونات) .. و تطرح أحدث النظريات العلمية أن الجسيمات الأولية هي نظام متعدد الأوتار !! و لن يكون هذا أيضا هو الحد النهائي للوجود برغم أنه إطار شديد العمق لعالمنا.
    بالطبع هناك من يحاول تلجيم الفكرة في عقله فيقول أن هذا الكون الذي نعيش فيه و الذي بدا منذ ما يقرب من 13.8 مليار سنة هو العالم كله و بالتالي فعالمنا له بداية زمانية و مكانية و هو محدود و متناهي و له مسبب أول .. فلا حاجة للبحث و التنقيب فيزيائيا عما حدث قبل ذلك و لنكتفي بالبحث العلمي عند هذا الحد !! و مع إن علماء عباقرة و رائعين كانوا يقولون حتى التسعينات أن الكون هو كل الوجود و كل الواقع, لكن بحسب المعروف علميا عن نظرية الإنفجار الكبير يظهر سؤالا مهما. يعني بما ان الإنفجار الكبير قد نشأ من نقطة متناهية الصغر شديدة الحرارة و شديدة الكثافة, ثم أخذت هذا النقطة في التوسع و التضخم مع الوقت : أين كانت هذة النقطة و هي متناهية الصغر ؟ و داخل أي حيز يتمدد الكون طالما أن هذا التوسع لا يزال مستمرا ؟! يعني لا توجد حدود دولية او حوائط أسمنتية أو خنادق مائية تمنع هذا النمو-التوسع الكوني .. هو ليس إنفجارا في حجرة نوم إله إفتراضي و مهما يتوسع لا يجد ما يصده أو يمنعه.
    و بالتالي فإذا كان الكون الذي نوجد فيه هو الزمان و المكان Space-time الخاصين بنا, إلا أنه لا مفر من الإعتراف ان هناك أحداث قبلية نشأت قبل الإنفجار و تسببت فيه .. و لامفر من الإعتراف أن هناك مكان أكبر من الكون يتوسع فيه هذا الكون بلا حدود او مشاكل !! و لا يمكن للمرء ان يتخيل ان هذا الكون ينتهي بحائط اسمنتي مثلا, فهذا يجعلنا موجودين في حجرة مغلقة .. فحتى لو كان لهذا الكون آخر صلب فمن واجبنا ان نحفر في هذا الحائط لإختراق هذا العالم إلي ما يجاوره.

    تعقيد لامحدود

    بل و هناك أيضا التعقيد اللامحدود لكل شيء !! فنظرية التطور نفسها و برغم اناقتها و قدرتها الخارقة على تفسير كل ما يمكن ان يخطر ببال المرء تقريبا من تساؤلات بخصوص التنوع و التغير في الكائنات الحية .. إلا أنها لا تزال محتاجة لمزيد من التفصيل و مزيد من الدقة و مزيد من الشغل : و كذلك نظرية الإنفجار الكبير و كل نظرية و كل معلومة و كل إكتشاف كذلك. فمن المهم أن نفهم إننا حين نقوم بالعد فإننا نقوم بقفزات لامنطقية حتمية : يعني حين نعد 1 ثم 2 ثم 3 و هكذا .. فإننا نقفز من فوق الأرقام بمعدل رقم صحيح في كل مرة. لكن هذة تفتقد إلي الدقة لأن الرقم الذي يلي الرقم 1 هو (1 + 1\∞) ثم (1 + 2\∞) ثم (1 + 3\∞) .. و هكذا فهذة هي أول أرقام تأتي بعد الواحد و هي أرقام لا يمكن تعيينها بطبيعة الحال. و بالتالي فحين نريد أن نكون دقيقين نكتفي بالعد مثلا : 1 ثم 1.1 ثم 1.2 ثم 1.3 و هكذا .. و إن قتلنا حب الدقة و التفصيل جدا قلنا 1.01 ثم 1.02 ثم 1.03 و هكذا. لكن مهما كانت دقة العد فنحن نقوم بقفزات منطقية و زمانية لان الدقة اللانهائية مستحيلة و بنفس الطريقة لا يكتفي العلم أو العلماء بنظرية التطور بل يبحثون عن نشوء الحية ثم تطور الكون ثم نشوء الكون و هكذا .. بقفزات منطقية زمانية و بدون دقة تمثل 100% لانه لا توجد دقة تامة أو تفصيل كامل بسبب التعقيد اللانهائي لعالمنا.
    ناهيك عن ان كل المفاهيم الفيزيائية تتطور بشكل مستمر و هي قد أصبحت صعبة جدا على الإستيعاب بالنسبة لأي إنسان متوسط الذكاء او حتى ذكي. مفهوم الزمكان المطلق أصبح بلا معنى هو الآخر و حل محله مفهوم الزمكان النسبي منذ منتصف القرن العشرين, فالزمن يمر بشكل أبطأ بالنسبة لمن يتحرك بسرعة و يمر بشكل أسرع لمن يتحرك ببطأ : الكلام على السفر في الفضاء طبعا حيث نسبة التفاوت في السرعات تكون أكبر و أمثلة أينشتاين على أي السفر بسرعة الضوء تحديدا و هو إفتراض خيالي حتى الآن. ثم من بعد ذلك و بالتأكد عمليا من صحة ميكانيكا الكم ثم بطرح نظرية الاوتار الفائقة تصورا عن عالم ذو 11 بعدا و ليس أربعة أبعاد فقط (الطول x العرض x الإرتفاع x الزمن) كما كان أينشتاين يتصور .. أصبح تعقيد و غرابة آخر الإكتشافات العلمية عن هذا العالم أصعب حتى من قدرة العقل البشري على الإستيعاب و الفهم : أصبح المرء محتاجا لدعامات اليكترونية لدماغة لكي يستطيع إستيعاب هذة المفاهيم الفيزيائية الصعبة جدا !!
    عالم بلا حدود بلا بداية بلا نهاية بلا سقف بلا قاع, عالم لن يمكنك أبدا أن تعرفه كله او تفهمه كله او تكتفي منه كله, عالم يبلغ من الإتساع و العمق ما يسع كل شيء و أي شيء, عالم يبلغ من التعقيد و الغرابة ما لا يمكن حله كله مهما كان ذكاء أو عبقرية او منهجية العقل .. شيء مذهل و رهيب و يخطف الأنفاس بطريقة تجعل العقل و كأنه قد تعرض للإغتصاب و هتك العرض بشكل لانهائي. فهذا الإتساع اللانهائي يجبر المرء على الشعور بضياع لانهائي و هذا العمق اللانهائي يجبر المرء على الشعور بجهل لانهائي و هذا التعقيد يجبر المرء على الشعور بغباء لانهائي أيضا. طبعا كل إنسان يشعر بحسب قدرته على إدراك المعنى, لكن هذة الإكتشافات هي سبب موضوعي للإحساس بهذة المشاعر.
    كلها مشاعر سيئة لكنها حتمية للأسف, و في النهاية يتخطى المرء الصدمة السببية و يبدأ في الإعتياد على الفكرة. فمبدأ السببية اللامحدودة هذا لا يمكن تخطيه او تجاهله او تفنيده أبدا, هذا لا يحتاج حتى إلي إثبات لأنه بديهية منطقية. ببساطة كل رقم هناك ما هو أكبر منه ولا يمكن أن يوجد رقم كبير لا يزيد عدده لو أضفنا إليه واحد مثلا, و لا يمكن ان يوجد رقم أقل من ان ينقص لو أنقصنا منه واحد. الأعداد الصحيحة و الأعداد الحقيقية تكشف لنا إستحالة وجود رقم هو أكبر من كل الأرقام او رقم أصغر من كل الأرقام .. و هو ما جعل عالم الرياضيات الإنجليزي / جون والّيس يبتدع رمز اللانهاية (هو رمز و ليس رقما) عام 1655م.
    و مع كل هذا تجد بشر محدودي الذكاء يعتبرون أن رمز اللانهاية ∞+ هو أكبر رقم أو نهاية الأرقام !! يعني الرمز إسمه “لانهاية” أو نفي للنهاية ∞+ بمعنى انه لا توجد نهاية, فتأتي أنت و تعتبره نهاية الأرقام أو حدودها أو آخرها ؟!! هذا ليس رقما بل رمز .. مجرد سهم أو علامة توضح أن هذة الأرقام لا آخر لها ولا أول و لا حدود. لكن كما أن هناك بشر أطول و بشر أقصر, بشر أقوى و بشر أضعف .. كذلك الإمكانيات العقلية تتفاوت بين بشر أذكى و بشر أغبى : فمن الطبيعي أن نجد بشرا لا يستطيعون إستيعاب أو إدراك أن هذا العالم لا أول له و لا آخر .. لا مكانيا و لا زمانيا و لا يمكنك ان تحده او تحصره باي طريقة كانت. و بسبب هذا الضعف في الإمكانيات و بسبب صعوبة و جموح الفكرة بالنسبة إلي الكثير من العقول البليدة العاجزة, إخترع الأغبياء فكرة .. المسبب الأول.
    أكمل الفكرة على هذة المقالة : خرافة المسبب الأول

    To-infinity-and-beyond

    فيلم وثائقي مترجم مقطع على ست أجزاء, كل جزء عشر دقائق ..
    يطرح فكرة لامحدودية العالم بشكل رائع و مثير للفكر
     :

    إرسال تعليق