-->

نقد المادية الجدلية

 نقد المادية الجدلية
    لا شئ ثابت و لا شئ مطلق في هذا العالم, بل كل الموجودات متحركة و نسبية. كل شيء يتحرك في هذا العالم ليس إبتداءا بالجسيمان دون الذرية و ليس إنتهاءا بالمجرات و الأكوان, كل الأشياء مادية و كل ما هو مادة يتحرك و كل ما يتحرك نسبي. كل الكائنات الحية تتحرك حتى النباتات و أدق الميكروبات, تتحرك بحثا عن الغذاء و الأمن و الجنس .. و تتحرك لان لديها فائض طاقة تريد التخلص منه. و في عالم الكائنات الحية يحدث تبادل مستمر للمواد, لأن الكائنات الحية تتفاعل مع بعضها و تتفاعل مع الوسط المحيط. الأرض التي نعيش عليها تدور حول محورها و هي تدور حول الشمس, و الشمس نفسها ليست ثابتة بل هي تدور مع النظام الشمسي في المجرة و المجرة أيضا تدور في الكون .. و هكذا. كل جسم يتكون من ذرات تتحرك بإستمرار و كل ذرة تتكون من الكترونات تتحرك في غشاءها الخارجي و حتى البروتونات و النيترونات تتحرك في نواة الذرة. لذلك و بناء على أي حصر لكل الظواهر العالمية و الكونية و ليس فقط غالبيتها أو معظمها .. يمكن القول ان الحركة هي القدر الحتمي للمادة.

    المادية الجدلية

    بناء على بعض هذة الملاحظات في عصر كان العلم فيه أقل قوة و نجاحا و إنتشارا من عصرنا هذا, نجح الفيلسوف الألماني / كارل ماركس في صياغة أساس فلسفته و هي : المادية الجدلية أو المادية الدياليكتيكية Dialectical Materialism. و يمكن إعتبار المادية الجدلية هي الأساس النظري للماركسية أو لاهوت الماركسية لو صح التعبير, و على أساسها تقوم “المادية التاريخية Historical Materialism” التي تحاول تفسير التاريخ الإنساني على أساس مادي أيضا. و قد إعتمدت المادية الجدلية على مبدأين أساسيين :
    المبدأ الأول : المادة أزلية أبدية
    و هذا الإستنتاج لا يمكن أن ينسب فضله إلي الماركسية لأن العلم نفسه يقر ذلك من خلال قانون حفظ المادة/الطاقة : المادة و الطاقة لا تفنيان و لا تخلقان من عدم بل تتحولان من صورة إلي أخرى .. المادة إلي مادة, و الطاقة إلي طاقة, و المادة إلي طاقة, و الطاقة إلي مادة.
    المبدأ الثاني : المادة في حركة
    و هذا الإستنتاج يحسب للماركسية لأنه لا يوجد قانون علمي صريح يقول أن المادة يجب أن تكون في حالة حركة, برغم أن كل الظواهر الطبيعية التي يصفها العلم هي فعلا في حالة حركة. و ربما يكون السبب الذي يمنع العلماء من صياغة قانون كهذا هو أنه ليس قانونا بالمعنى الرياضي أو الفيزيائي فلا يمكن صياغته بمعادلات مثلا, و لا يمكن إستنتاجه بشكل موضوعي من مجموع الظواهر الطبيعية في العالم برغم أن كل الظواهر الطبيعية لوحدها هي ظواهر متحركة .. فهذة مقاربة فلسفية لا تتعرض مع العلم ولا مشاكل فيها.
    لذلك و بناءا على فهم محترم للعالم من منظور علمي و قراءة جيدة لــ “منطق العلم” للفيلسوف الألماني هيجل, صاغ فريدريك أنجلز (صديق كارل ماركس و مؤسس الشيوعية معه) القوانين الثلاثة للمادية الجدلية :
    1-     قانون وحدة و صراع المتناقضات
    The law of the unity and conflict of opposites
    يفيد هذا القانون انه لا توجد في الوجود ظاهرة إلا وتحمل في داخلها بذرة فنائها. إن أضداد الظاهرة تتواجد معها في داخلها وتنبع من من ذاتها ، فالتناقضات دوما تعيش معا والأصل في الطبائع التضاد الداخلي ، لذلك فإن النقائض تعيش معا . المعنى من هذا القانون هو أقرب ما يكون إلي رسمة “الين و اليانج” الخاصة بالديانة الطاوية.
    2-     قانون تحول الكم إلى كيف
    The law of the passage of quantitative changes into qualitative changes
    يفيد هذا القانون ان التغيرات الكمية التي تؤدي لتغيير نوعي في الطبيعة عند بلوغها للمعيار اللازم لحدوث التغيير. تراكم الامور مع بقاء الحالة على ما هي عليه هو تغير كمي ؛ مثلا في حالة الغيمة المتشكلة من البخار تظل التغيرات الكمية تتراكم أي تستمر الأبخرة بالتصاعد والتجمع في الغيم ولا يحدث التغير النوعي إلا عندما تتراكم هذه المتغيرات الكمية للحد اللازم (نقطة حرجة Critical Point) لحدوث تغير نوعي أي الحد اللازم من تشبع الغيمة بالابخرة لهطول المطر. و هذا القانون يمكنه أيضا أن يصف نظرية التطور البيولوجي و نظرية الإنفجار الكبير.
    3-     قانون نفي النفي
    The law of the negation of the negation
    يفيد هذا القانون ان التطور ناتج عن وحدة و صراع المتناقضات. فحركة التطور هي عبارة عن سلسلة تناقضات تنفي بعضها نفيا, فعن طريق نفي المراحل القديمة يتم الوصول إلي المراحل الجديدة .. و التي يتم نفيها هي الأخرى لصالح مراحل أحدث. مثلا عملية خروج الشرنقة من البويضة هي عملية نفي لمرحلة البويضة ، ثم تبدأ مرحلة تراكم كمي جديدة إلى ان تنضج الفراشة جنسيا وتصبح مؤهلة للتزاوج فيتم التزاوج لتضع البيض وتموت نافية النفي .. هكذا فعملية التطور هي سلسلة لامتناهية من نفي النفي ، الذي ليس رجوعا للوراء وإنما نفي إيجابي لأن إتجاه المحصلة له دوما للأمام وأعلى أي إتجاه تطوري.
    و على أساس المادية الجدلية تعتبر المادة هي أساس و جوهر كل الظواهر الطبيعية. فالحياة مثلا ليست إلا تفاعلات بيوكيميائية, برغم تعقيدها و صعوبة كشف كل غموضها حتى الآن إلا انها ليست شيء خارق للطبيعة بأي من الأشكال و لا يعتمد على وجود ما يسمى بــ “الروح” (هذا الشيء مجهول الهوية و الوظيفة و الذي لا يمكنه أن يحرك الجسد لو تم تعطيله بمرض أو بسم أو برصاصة مثلا) و ذلك لأنه شيء بلا وجود و بلا معنى و الأجسام الحية ككل شيء آخر يعمل لو كانت اجزاءه الرئيسية تعمل و يعطل و ينهار لو تم ضرب أو إفساد أيا من هذة الأعضاء الحيوية.
    و الوعي أيضا هو حركة عصبية في الدماغ يبحث فيها و يسعى لسبر أغوارها علماء العلوم العصبية Neuroscience مثل : البيولوجيا العصبية و الفيزيولوجيا الكهربية و العلوم العصبية الحاسوبية و علم التطور العصبي وعلم الجينات والكيمياء الحيوية و علم الأحياء الجزيئى .. علوم كثيرة تسعى لمعرفة آليات عمل الجهاز العصبى المركزى و الجهاز العصبى الطرفى ذات التكوينات شديدة التعقيد, و المسئولة عن كل عمليات التفكير أو ما يعرف بالوعي. هذا التعقيد الذي يبلغ ذروته في الدماغ حيث يحتوى الدماغ وحده على مائة مليار من الخلايا العصبية و مائة تريليون من الوصلات العصبية.
    من اليمين إلي اليسار : ماركس و أنجلز و لينين
    من اليمين إلي اليسار : ماركس و أنجلز و لينين

    نقد علموي للمادية الجدلية
    Scientistic Critique of Dialectical Materialism

    لا يمكن لأي إنسان منصف أن ينكر الطفرة التي حققها ماركس و أنجلز في الفلسفة و في إسهاماتهما في علم الإجتماع و في نقد الرأسمالية و في زرع أمل في النفوس لتحقيق عالم أفضل للجميع, عالم أكثر عدلا و تقدما و روعة. و مهما حدث من جرائم و خطايا و أخطاء من التجارب الماركسية فلا يمكن لنفس هذا المنصف إلا أن يتذكر أن كل إختراع و كل تقنية جديدة و كل حل لمشاكل مزمنة قد حاول العباقرة الذين صنعوها كثيرا و فشلوا كثيرا قبل ان ينجحوا في النهاية. و أشهر مقولة لتوماس أديسون مخترع المصباح الكهربائي و البطارية و آلة التصوير السنيمائي و  إختراعات أخرى كثيرة هي : أنا لم أفشل في إختراع المصباح الكهربائي 99 مرة بل لقد نجحت في إكتشاف 99 طريقة لا يعمل بها المصباح الكهربائي .. فما حققته هو ثمرة عمل يشكل الذكاء 1% منه و المثابرة 99%.
    لذلك فالأخطاء الفلسفية للمادية الجدلية و الماركسية عموما و حتى فشل التجارب الشيوعية لأي أسباب لا يعني أن السعي نفسه خاطئ أو أن المحاولات الخاطئة لا تشرف صاحبها .. فالشماتة في المخترع المجتهد حين يفشل لا تعبر إلا عن دونية و صغر نفس الشامتين الفاشلين. فكل إنسان عاقل و يعقل لا يتعلم فقط من نجاحات الآخرين بل يتعلم من أخطاءهم أيضا, و من لا يعرف فضل معارف و تجارب و حتى أخطاء الآخرين عليه هو الأحمق الذي لا فائدة منه. و من ثم فبرغم الأصالة و عمق الرؤية اللذان تمتع بهما ماركس و أنجلز, و برغم تطابق مفاهيم المادية الجدلية على الظواهر الطبيعية في أحيان كثيرة .. إلا أن المادية الجدلية بها بعض العيوب الجوهرية, يمكن الإشارة إلي أهم عيبين منهم.
    1-    تعريف المادة
    في حالة الموضوع الديني يبدو الدين متهافتا لأنه يعتمد على مفهوم واسع و مطاط و لا يمكن حصره يسميه المخرفين الدينيين “الله” أو “الإله” .. فلا أحد يستطيع أن يعرف بالتحديد ما هو هذا الله بالتحديد. ماركس وقع في نفس الخطأ الديني بتأسيسه للفلسفة على موضوع يصعب تعريفه بالتحديد هو “المادة”. فالمادة Matter علميا هي كل الأشكال الفيزيائية التي تم معرفتها و تجربتها و التي لم تكتشف معظم خصائصها بعد : ابتداءا من المادة التقليدية و المادة المظلمة و المادة المضادة. و في المقابل هناك الطاقة (الحركية و الحرارية و الكهربية .. الخ) و هناك الطاقة المظلمة, و طبعا ينطبق عليهم جميعا قانون حفظ المادة/الطاقة. يعني المادة محدودة في المكان لأن معظم العالم مكون من فراغ يحيط و يسكن في كل مادة, لكن المادة/الطاقة يمتدان عبر الزمان بلا بداية أو نهاية .. يتغيران فقط من صورة إلي أخرى لكن لا يفنيان أو يخلقا من عدم أبدا.
    لكن لا يمكن إعتبار أي مادة لها وجود حقيقي ما لم يتم الإستدلال عليها و قياسها بأي آداة تقنية أو أسلوب علمي, و ماركس حين يطرح تصور للوجود كمادة في حركة فهو سيخطئ حتما لا محالة لو قام بتعريف المادة أي تعريف : لأن المادة كما يعرفها علم القرن التاسع عشر ليست هي المادة كما يعرفها علم القرن العشرين و لن تكون حتما هي نفس المادة التي يعرفها علوم القرون المستقبلية الآتية.
    و يحاول الماركسيين و الماديين الإفلات من هذة المعضلة بتعريف المادة تعريف مطاط واسع جدا و هي أنها الواقع الموضوعي, و هو تعريف الغرض منه الرد على توهمات و خرافات المثاليين الدينيين الذين يتصورون وجود عقل خارق (الله) يسبق المادة و هو سبب وجودها و لا سبب لوجوده (أهو غلاسة كده !) .. على أساس أن موضوعية الفلسفة المادية هي ضد ذاتية الأديان المثالية. و هي محاولة الرد التي أوقعتهم في معاكسة الخرافة الدينية و بالتالي الإعتماد على هذا المفهوم الواسع الذي يشمل كل شيء كما يشمل الإله كل شيء أيضا. لكن الإبتداء و التأسيس على فهم مطلق أو نهائي للواقع هو الفهم المادي سيقود حتما و مباشرة إلي الأدلجة العقائدية, و بسبب تنوع المادة/الطاقة و الإكتشافات المتوالية كل يوم سيضطر الماركسيين و الماديين ان يضعوا تعريف بهذا الإتساع و المطاطية .. و في النهاية ستكون المحصلة المعرفية هي صفر .
    لأن بتعريف المادة تعريف واسع مطاط سيجعل المادة تشمل كل شيء و كل ما هو موجود, و لذلك يمكن الوصول بالإستنتاجات المادية إلي هذا الطريق : المادة = كل ما هو موجود (الواقع الموضوعي), و بالتالي كل ما هو موجود موجود و كل ما هو غير موجود غير موجود (كسبنا صلاة النبي) .. ما الإستفادة المعرفية هنا زيادة على رفض التخاريف الدينية ؟! لاشيء. نفس الخطأ تقع فيه الطبيعية الوجودية Metaphysical Naturalism و هي الفلسفة التي إستبدلت مصطلح المادة بمصطلح الطبيعة و في النهاية يستحيل عليهم تعريف ماهية “الطبيعة” كما إستحال على الماديين من قبلهم تعريف ماهية “المادة” .. لأن ببساطة لا يمكنك أن تبدأ من الواقع أو الموضوع فانت لا تعلم عنه كل شيء و يستحيل ان تعلم عنه كل شيء مهما راكمت من علوم و تقنيات لأنه عالم لامحدود الإتساع لامحدود العمق لامحدود التعقيد.
    طبعا ليس الحل هو أن نبدأ من الذات و من الرغبات و التوهمات الذاتية النرجسية التي تجسدها الأديان, الحل هو أن نبدأ بالمنهج العلمي الموضوعي, أن نبدأ بالبحث عن الحقيقة بواسطة المنطق العقلي و التجريب العملي و القياس الموضوعي .. فلا يحكمنا توهمات و خرافات الذات و في النفس لا نتورط في عقائد و ايديولوجيات قاصرة لأنها بنت زمنها و لا يمكنها ان تجاري كل العصور. المنهج و ليس الذات, المنهج و ليس الموضوع. المنهج المنطقي العلمي العملي المعياري الموضوعي هو أفضل آداة يمكن إستخدامها لمعرفة و فهم هذا العالم بحيث لا يكون المرء ملزما بعقيدة أو مفاهيم ضيقة متعصبة أو مفاهيم واسعة مطاطة لا تعني أي شيء .. بل بمنهج نسبي ديناميكي يلاحق الواقع النسبي الديناميكي أينما ذهب و أينما حل و كيفما يتغير هو معه يتغير بتغيره : لأن الحقيقة هي رحلة بحث و ليست منطقة وصول.
    2-    التعارض مع العلم
    أهم خطأ وقع فيه ماركس و أنجلز كما وقعت فيه الماركسية من بعدهم, هو أن الماركسية ليست علما تجريبيا ديناميكيا. فماركس يختلف عن نيوتن و أينشتاين و داروين و لافوازييه في أن القوانين التي صاغها ماركس ليست قوانين موضوعية يمكن قياسها و إختبارها و التحقق منها و تطويرها و تطويعها لخدمة الإنسانية بأي شكل. فالماركسية ليست علما مهما إدعى محبي الماركسية و أنصارها, بل يمكن إعتبارها علم زائف أيضا. و الماركسية حين تطرح قوانينها فهي تفعل واحدة من ثلاثة أشياء : إما أن تعتمد على قوانين و مبادئ علمية أصلا و من ثم لا تأتي بجديد, و إما تأتي بتصورات عقائدية من عندها لا يمكن إثباتها أو إختبارها في المعمل, و إما تطرح مفاهيم مطاطة واسعة ليس لها معاني محددة فعلا. و لأن الماركسية ليست علم فمعظم روادها تعاملوا مع الماركسية كدين أو دوجما لا يمكن مساءلتها او إختبارها .. بل وصل الأمر إلي حد معارضة النظريات العلمية إعتمادا على التصورات الماركسية العقائدية التي نشأت أصلا لنصرة العلم على الخرافات.
    في الإتحاد السوفيتي السابق و في كل دولة شيوعية و في العالم كله ظل الشيوعيين يعايرون الإكتشافات العلمية بمعيار المادية الجدلية. رفضوا و تشككوا في النظرية النسبية لا شكا علميا بل شكا عقائديا ماركسيا, رفضوا و تشككوا في نظرية الإنفجار الكبير لا شكا علميا بل شكا عقائديا ماركسيا. صحيح أن ماركس رحب جدا بنظرية التطور و إعتبرها تأكيدا لأفكاره و فلسفته, لكن أن يتم معايرة العلم عقائديا و تقييمه من حيث توافقه مع أي عقيدة أو فكر أو فلسفة هو أمر خاطئ و مرفوض تماما. العلم يتم معايرته بالأدلة و البراهين و التجارب العلمية و ليس بتوافقه أو تضاربه مع أي عقيدة. يعني لا يمكن ان تعتبر نظرية التطور إعجازا علميا للماركسية على طريقة الإعجاز العلمي في القرآن, و يتم رفض النظريات العلمية التي يعتبرها الماركسيين لا تتفق مع المادية الجدلية كما يفعل المؤمنين بالأديان حين يتعارض العلم مع أديانهم.
    لا, العلم يجب كل شيء و يعلو فوق كل المعتقدات و الأديان .. الحقيقة العلمية أهم و أبقى, و الأدلة العلمية أقوى و أصلب. العلم لا يتم تقييمه إلا علميا بينما العلم يقيم كل شيء. و هذا يقودنا إلي دور الفلسفة أساسا, فالفلسفة ليست منافسا للعلم ولا ندا للعلم ولا قيما على العلم بأي حال من الأحوال.
    الفلسفة تقوم بخدمة العلم لا أكثر : يعني تبسيط العلم, و التنظير و الترويج له, و محاولة قراءته و فهمه بشكل شامل و عمومي, لكن الفلسفة لا تفرض على العلم شيئا و لا تمنع عن العلم شيئا .. لأن العلم يعلو و لا يعلى عليه. و حتى بالنسبة للفلسفة العلموية أيضا لا مجال لأن تفرض على العلم شيئا أو تمنع عن العلم شيئا, و لو حدث فعلا تكون فلسفة مخطئة و خاطئة. فالفلسفة العلموية هي خادم و داعم للعلم لا أكثر, و مهمتها لا تتجاوز التبسيط و التنظير و الترويج و الدعم للعلم عند عموم الناس .. بدون أي تزيد او تنقيص او خلط أو مغالطة.
    و بسبب هذا الخطأ تورط ماركس في التنبوء بالمستقبل تنبوء لاعلمي, فهو تنبأ بأن يتطور المجتمع الإنساني نحو الشيوعية تنبوءا لا رياضي و لا إحصائي. يعني العلموية ربما تسعى فعلا إلي تنظيم إجتماعي يشبه بالفعل المسعى الشيوعي للتنظيم الإجتماعي مع تعديلات جوهرية, لكنها لا تتنبأ بحتمية حدوث ذلك لان المهمة تعتمد على إجتهاد أصحابها لكي تتحقق. و العلموية حين تقدم تنبوءات عما سيحدث في المستقبل فالتنبوء هنا هو تنبوء رياضي إحصائي إحتمالي و ليس تنبوءا خرافيا على طريقة أنبياء الأديان. يعني العلماء حين يتنبأون بالكسوف و الخسوف بمنتهى الدقة هم يعتمدون على معادلات رياضية دقيقة و بالتالي فتنبؤاتهم تحدث دائما. و التنبؤات العلمية بأحوال الطقس تخطئ كثيرا لأن نظام الطقس أكثر عشوائية و فوضوية من النظام الشمسي و بالتالي التنبوء العلمي به أكثر صعوبة بكثير.
    و التنبوء العلمي بنشوء الذكاء الصناعي الأليكتروني الذي سيجب و يعلو فوق الذكاء الإنساني البيولوجي هو تنبوء إحصائي أيضا يعتمد على قانون مور و غيره في حساب معدل تطور قدرات الحواسيب منذ نشوء الكمبيوتر و حتى الآن. و حساب معدل النمو لقدرات المعالجات Processors و القدرة على التخزين و غيره .. و في النهاية لو حدث إنهيار ما شامل للإقتصاد العالمي فالتنبوءات العلمية ستخطئ بالتأكيد. لكن بحساب معدل نمو القدرات الحاسوبية يمكن التنبوء بالنقطة الزمنية التي سيتجاوز فيها الكمبيوتر القدرات العقلية و المعرفية للإنسان (Singularity) بالعدة Hardware و بالبرمجة Software معا. أما أي تنبوء آخر لا يعتمد على الملاحظة العلمية لنمط رياضي أو إحصائي للظواهر الطبيعية و البشرية العالمية فلا معنى و لا مجال للتنبوء بها.
    يعني بإختصار يمكن القول ان كل إنجاز فكري أو فلسفي يمكن الإشارة إليه في المادية الجدلية يرجع إلي المقاربة الموضوعية للعلم, و كل فشل أو خطأ للمادية الجدلية و المادية التاريخية و الماركسية عموما يرجع إلي الإبتعاد عن العلم و العلمية و محاولة فرض توجهات فكرية و نظريات عقائدية جامدة تخص صاحبها و لا تخص الحقيقة العلمية أو الواقع الموضوعي. هي قاعدة بسيطة و سهلة : أن تلتزم بالعلم تكون محقا و أن تنحرف عن العلم تكون مخطئا. و أظرف ما في الموضوع أن المادية الجدلية تعرضت لضرب و نقد غير موضوعي كثيرا لا لأنها إنحرفت عن العلم أحيانا لصالح توجهها العقائدي, بل تعرضت للنقد حين إنحازت للعلم ضد الخرافات الدينية المثالية تحديدا .. أو تم إنتقادها بمنطق الليبرالية الرأسمالية العدمية العبثية : و كلاهما مخطئ بالتأكيد.

    إرسال تعليق